نسخ السنة بالسنة

باعتبار تقسيم السنة إلى متواترة وآحاد، فإن نسخ السنة بالسنة يندرج تحته أربع صور: نسخ المتواتر بالمتواتر، ونسخ الآحاد بالآحاد، ونسخ أحدهما بالآخر.

1 – نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة:

وهذا النوع مجمع عليه بين القائلين بالنَّسخ؛ قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني – 478 هـ – في ورقاته: “ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر”، لكن نقل العلامة الفوزان عن صاحب شرح الكوكب المنير أنه قال: “وأمثال نسخ متواتر السنة بمتواترها فلا يكاد يوجد”[1].

2 – نسخ الآحاد بالآحاد:

وهذا النوع كذلك لا خلاف فيه بين القائلين بالنَّسخ؛ لأن الناسخ والمنسوخ في درجة واحدة، فلا مانع من أن ينسخ أحدهما الآخر.

ومن الأمثلة: حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعًا: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها))؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: “كنت نهيتكم” يدل على أن النهي ثابت بالسنة.

3 – نسخ الآحاد بالمتواتر:

وهذا النوع لا خلاف فيه كذلك بين القائلين بالنَّسخ؛ وذلك لأن المتواتر أقوى من الآحاد، فلا مانع من نسخ الآحاد بالمتواتر.

4 – نسخ المتواتر بالآحاد:

إذا كان جمهور العلماء متفقين على جواز الأنواع الثلاثة الماضية من نسخ السنة بالسنة، فقد اختلفوا في جواز هذا النوع الرابع شرعًا، واتفقوا على جوازه عقلاً؛ فذهب الجمهور إلى المنع، وذهب الظاهرية إلى الإثبات.

وقد استدل الجمهور على المنع بدليل عقلي وآخرَ سمعي:

فالأول: أن المتواتر قطعي الثبوت، وخبر الواحد ظني، والقطعي لا يرتفع بالظني؛ لأنه أقوى منه، والأقوى لا يرتفع بالأضعف.

والثاني: أن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى، مع أن زوجها طلقها وبتَّ طلاقها، وقد أقر الصحابة عمر على رده هذا، فكان إجماعًا، وما ذاك إلا لأنه خبر آحادي لا يفيد إلا الظن، فلا يقوى على معارضة ما هو أقوى منه، وهو كتاب الله إذ يقول: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾ [الطلاق: 6]، وسنة رسوله المتواترة في جعل السكن حقًّا من حقوق المبتوتة.

والذي تطمئن إليه النفس: ما ذهب إليه الظاهرية – كابن حزم وغيره – من الجواز؛ وذلك لأن حديث الآحاد إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالحق أنه يفيد العلم كما يوجب العمل، وإذا ثبت صار قطعيًّا؛ إذ ما الفرق بين ما تواتر وما لم يتواتر إذا صح الكل عن النبي صلى الله عليه وسلم.. إن التفريق بين المتواتر والآحاد كان من أسباب انحراف البعض، حتى ذهبوا إلى القول: إن حديث الآحاد حجة في الأحكام دون العقائد، وهذا باطل من عدة وجوه لا يتسع المجال لذكرها، وقد فنَّد العلامة المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى هذه الشبهة، ورد عليها بقوة في كتابه القيم: “الحديث حجة بنفسه”.

ولو سلمنا جدلاً أن المتواتر يبقى أقوى من الآحاد؛ لكون الأول قطعيًّا، فنقول ما قاله العلامة عبدالله الفوزان: “.. القطعي: هو اللفظ، ومحل النَّسخ هو الحكم، ولا يشترط في ثبوته التواتر؛ لأن الدلالة باللفظ المتواتر قد تكون ظنية؛ لجواز أن يكون المرادُ غيرَ ذلك، فحينئذ لم يُرفَعِ الظنيُّ إلا بمثلِه”[2].

وقد مثل – رحمه الله تعالى – لذلك بحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: “بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة”؛ متفق عليه.

ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن استقبال بيت المقدس إنما كان ثابتًا بالسنة المتواترة، فنُسخ بهذا الخبر وهو حديث آحاد؛ حيث عمل الصحابة به بمجرد سماعه في نسخ ما تقرر عندهم بطريق العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم، فدل على الجواز.

بهذا استدل العلامة الفوزان على الجواز، لكن وإن كنت مع الجواز، فإن هذا الدليل قد لا يسلم؛ لاحتمال أن يقال: إن النَّسخ إنما هو بالقرآن؛ لقوله: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها”، والله أعلم.

وقد رجح الإمام الشوكاني – رحمه الله تعالى – الجوازَ – وهو مذهب الظاهرية؛ حيث قال بعد أن أورد ما استدلوا به على صحة مذهبهم: “ومما يرشدك إلى جواز النَّسخ بما صح من الآحاد لِما هو أقوى متنًا أو دلالة منها: أن الناسخ في الحقيقة إنما جاء رافعًا لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه، وذلك ظني وإن كان دليله قطعيًّا، فالمنسوخ إنما هو هذا الظني، لا ذلك القطعي، فتأمل هذا”[3].

[1] شرح الورقات: 182.

[2] شرح الورقات في أصول الفقه للعلامة عبدالله بن صالح الفوزان: 183 – 184.

[3] إرشاد الفحول: 2/68.